الصليب الأحمر: الجوع بات أخطر على اليمنيين من القتال (حوار)
الصليب الأحمر: الجوع بات أخطر على اليمنيين من القتال (حوار)
في قلبِ شبهِ الجزيرة العربية، حيث تتجذر الحضارة والتاريخ، يئن اليمن تحت وطأة صراع دامٍ امتد لعقدٍ من الزمان، محولاً أرضه السعيدة إلى ساحة لمأساة إنسانية غير مسبوقة، ولم تعد الأخبار القادمة من هناك مجرد أرقام تُحصى في تقارير المنظمات الدولية بل هي صرخات ملايين البشر الذين وجدوا أنفسهم عالقين في دوامة من العنف، والفقر، والمرض.
وقد تلاشت معالم الحياة الطبيعية، وتغير وجه المجتمع اليمني جذرياً، فيما يتساءل العالم عن الكلفة الحقيقية لحرب طالت أكثر مما ينبغي، وحولت الأمل إلى يأس، والمستقبل إلى مجرد شبح بعيد.
ويختزل المشهد في اليمن قصة بلد يواجه انهياراً شاملاً على كافة المستويات. فبعد عشر سنوات من القتال المستمر، تآكلت البنية التحتية الأساسية، انهارت الخدمات الحيوية، وتعمق الجوع ليصبح رفيقاً دائماً لملايين الأسر، فالأطفال، الذين هم عماد المستقبل، يُحرمون من أبسط حقوقهم في التعليم والصحة، ويكبرون في بيئة لا يعرفون فيها سوى الحرب وويلاتها، ليصبحوا بذلك "جيل الطوارئ" الذي لم يعرف السلام قط.
تُبرز هذه الأزمة الحاجة الماسة إلى صوت يرصد هذه التحولات، ويكشف عمق المعاناة الإنسانية بعيداً عن لغة السياسة والحرب، وهنا تبرز اللجنة الدولية للصليب الأحمر كشاهد رئيسي على الواقع الميداني، وشريك أساسي في تقديم يد العون للمتضررين.
وتعمل اللجنة في اليمن، التي تُعد رابع أكبر عملية لها على مستوى العالم، في ظروف بالغة التعقيد، محاولةً التخفيف من وطأة الأزمة عبر مبادئها الراسخة: الإنسانية، الحياد، النزاهة، والاستقلال. هذه المبادئ هي التي تمكنها من الوصول إلى الفئات الأكثر ضعفاً، حتى في المناطق التي يصعب الوصول إليها، وتقديم المساعدات المنقذة للحياة دون تمييز أو تسييس.
وسلطت سهير زقوت، المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر لمنطقة الشرق الأدنى والأوسط، في حوار مع "جسور بوست"، الضوء على التحديات الهائلة التي تواجه العمل الإنساني في بلد يعاني من "إرهاق إنساني" مزمن، حيث تتضاءل الثقة أحياناً في جهود الإغاثة نتيجة لطول أمد الأزمة واتساع نطاقها، كاشفة عن تحولات اجتماعية ونفسية عميقة طالت النسيج المجتمعي اليمني.
وإلى نص الحوار:
ما المناطق التي تعتبرونها الأكثر إهمالًا من حيث الاستجابة الإنسانية؟ ولماذا لم تصلها جهود الإغاثة بشكل كافٍ؟
الاحتياجات الإنسانية في اليمن ضخمة، حيث يحتاج أكثر من 18.2 مليون شخص، بمن فيهم 4.5 مليون نازح داخلياً، إلى المساعدة. بالإضافة إلى أن الاستجابة للاحتياجات المُلحة لملايين اليمنيين في بلد يعاني من نزاعات مسلحة مختلفة لما يقرب من عقدين من الزمان أمر صعب للغاية.
المساعدات الإنسانية المقدمة محدودة ومتناقصة، ما يعني أنها لن تلبي أبداً احتياجات الشعب اليمني، وخاصة أولئك الذين يعيشون بالقرب من خطوط المواجهة وفي المناطق التي يصعب الوصول إليها.
في صراع تفرض فيه جميع الأطراف قيوداً، كيف تضمن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقديم المساعدات دون تسييس أو تلاعب؟
تعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر بناءً على مبادئ الإنسانية والحياد والنزاهة والاستقلال في جميع أنشطتها، هذه المبادئ ضرورية للحفاظ على الثقة والمصداقية في مناطق النزاع ولضمان إيصال المساعدات للمحتاجين دون تمييز أو اعتبارات أخرى.
وتُجري اللجنة الدولية للصليب الأحمر حواراً مستمراً مع جميع الأطراف المشاركة في النزاعات، بما في ذلك اليمن، داعيةً إلى احترام القانون الإنساني الدولي وحثهم على إعطاء الأولوية للاعتبارات الإنسانية في عمليات صنع القرار الخاصة بهم.
ما التحولات النفسية والاجتماعية التي لاحظتموها في المجتمعات اليمنية بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب؟
للنزاع في اليمن آثار عميقة فورية وطويلة الأجل على الصحة العقلية والرفاهية لشعبه، الذين يواجهون تعرضاً مستمراً للصدمات وسط انهيار المؤسسات والموارد المحدودة. ونحن ندرك مدى صعوبة الوضع بالنسبة للعديد من اليمنيين.
ولا نستطيع تقديم دعم نفسي مباشر، تركز اللجنة الدولية للصليب الأحمر على المساعدة المنقذة للحياة، بما في ذلك تعزيز نظام الرعاية الصحية لإفادة أكبر عدد ممكن من الناس.
وهل توجد برامج للجنة الدولية للصليب الأحمر تعالج هذه الصدمات غير المرئية؟
ندعم أكثر من 49 مرفقًا صحياً في جميع أنحاء اليمن، بما في ذلك مراكز الرعاية الصحية الأولية، ونوفر الأنسولين لمرضى السكري، ونقدم المساعدة بانتظام لخمسة مراكز لإعادة التأهيل البدني.
هل يمكن القول إن جيلًا كاملًا من اليمنيين نشأ في حالة طوارئ؟ وما تداعيات ذلك على مستقبل البلاد؟
كل عام يمر دون حل يجعل التعافي من النزاع أكثر صعوبة بشكل كبير. يمكننا القول إن جيلًا كاملًا من اليمنيين قد نشأ في حالة طوارئ.هناك حاجة ماسة لحل سياسي يجب أن يصاحبه دعم مستدام لليمن، سيُشعر إرث هذا النزاع لأجيال، مع وجود أكثر من 4.5 مليون طفل حاليًا خارج المدرسة.
وما أكثر علامات الانهيار المؤسسي إثارة للقلق التي شهدتموها في قطاعات مثل الرعاية الصحية والتعليم؟
يُعد الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية الأولية، محدوداً. في العديد من المناطق: يفتقر أكثر من 20.1 مليون شخص، من إجمالي عدد السكان البالغ 30.5 مليون نسمة، إلى الرعاية الصحية الأساسية، و50% فقط من المرافق الصحية لا تزال تعمل. يتأثر النظام التعليمي بالمثل، ما يزيد من التحديات التي يواجهها اليمن في إعادة بناء مستقبله.
هل اضطررتم إلى تعليق أو تقليص العمليات بسبب تدخلات أو تهديدات أمنية؟ وكيف تديرون هذه الضغوط؟
نعم، كانت هناك حالات اضطررنا فيها إلى تعليق أو تقليص العمليات في بعض المناطق بسبب المخاوف الأمنية. في مثل هذه الحالات، نعطي الأولوية لسلامة موظفينا والأشخاص الذين نخدمهم، ونقيم المخاطر المتضمنة بعناية. نجري مناقشات شاملة مع السلطات المحلية وأصحاب المصلحة الآخرين لتقييم البيئة الأمنية وتحديد أفضل مسار للعمل لاستئناف العمليات بأمان.
هل تواجهون ما يُعرف بـ"الإرهاق الإنساني" بين اليمنيين، حيث يفقد الناس الثقة بجهود الإغاثة؟ وكيف تعالجون ذلك؟
في بلد تبلغ فيه الاحتياجات الإنسانية أبعاداً هائلة، حيث يحتاج ملايين الأشخاص إلى المساعدة بسبب النزاعات المسلحة لأكثر من عقدين، من المفهوم أن الثقة بجهود الإغاثة قد تتضاءل بمرور الوقت، وتدرك اللجنة الدولية للصليب الأحمر أهمية الحفاظ على الشفافية والمساءلة وإشراك المجتمع لمعالجة هذا التحدي.
نسعى دائماً لإشراك المجتمعات المحلية في عملية تحديد احتياجاتها وتكييف استجاباتنا الإنسانية وفقًا لذلك. وبذلك، نهدف إلى إعادة بناء واستدامة الثقة في مهمتنا الإنسانية بين اليمنيين.
بصفتها جهة محايدة، كيف يمكن للجنة الدولية للصليب الأحمر أن تسهم في المصالحة المجتمعية أو جهود بناء الثقة مثل تبادل الأسرى؟
في دورها كوسيط محايد، يمكن للجنة الدولية للصليب الأحمر أن تسهم في تدابير بناء الثقة مثل إطلاق سراح معتقلي النزاع، واستعادة رفات الأفراد المتوفين وإعادتها إلى أوطانهم، وكذلك إجراء زيارات للمحتجزين المرتبطين بالنزاع واستعادة الروابط العائلية بين المفقودين وأحبائهم، وترأس اللجنة الدولية للصليب الأحمر اللجنة الإشرافية المعنية بتنفيذ اتفاق تبادل الأسرى الذي تم تشكيله بعد اتفاق ستوكهولم في عام 2018 بين أطراف النزاع في اليمن.
ولا تشارك اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بصفتها فاعلاً إنسانياً محايداً ونزيهاً ومستقلاً، بشكل مباشر في المفاوضات بين الأطراف، فهي تقف على أهُبة الاستعداد لدعم أي مبادرات إنسانية يتفق عليها الطرفان.
بين عامي 2019 و2025، سهّلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إطلاق سراح ونقل أكثر من 2749 محتجزاً سابقاً إلى ديارهم عبر اليمن والمملكة العربية السعودية في عمليات مختلفة.
هل تعتقدون أن العمل الإنساني وحده لا يزال له معنى في اليمن، أم أن المساعدات أصبحت مجرد ضمادة على واقع لا يطاق؟
بينما تُعد المساعدة الإنسانية ضرورية وحاسمة في اليمن، حيث الاحتياجات هائلة بعد عقدين من النزاع المسلح، فمن الواضح أن المساعدات الإنسانية وحدها لن تحل مختلف التحديات والمشكلات التي يواجهها اليمنيون. ما يحتاج إليه الناس في اليمن هو فترة راحة من النزاع حتى يتمكنوا من إعادة بناء حياتهم.